حوار مع حمار

أثناء زيارته لبلدة جبلية نائية وجد حمارا يتجول بين الحقول.. بدت على الحمار علامات الصمت، وقف مكانه بهدوء، ودونما خوف من سماع وقع أقدام أحد الغرباء وهي تدق الدرب غير بعيد عن مكان وقوفه، تحت شجرة زيتون ضربت جذورها عميقا في الأرض.. لم ينزعج الحمار من وجود الزائر على مقربة منه. لوح بذيله كثيراً، يبدو إنها إشارة ترحيب وحسن نية.. أما زائر البلدة القادم من المدينة الكبيرة، والذي تنقصه الخبرة بالحيوانات الأليفة وغير الأليفة. تعامل مع الأمر بشكل عادي، فلم تظهر عليه عند الاقتراب من الحمار، علامات الخشية من رفسة أو ما شابه ذلك.

أمعن المدني النظر في الحمار، وكذلك فعل الحمار مع المدني.. ثم فجأة وبعد مرور دقائق فقط تذكر الزائر المدني أنه لم يمتط في حياته ولو مرة واحدة حمارا او حصانا، باستثناء ركوبه في احد الأعياد مع أولاد الحارة عربة " طنبر" جرها جحش أو بغل كهل.. لم يعد يتذكر بالضبط متى وكيف.. لكن عربة العم أبو مرعي الذي عمل لكسب العيش في مدينة لا ترحم الغرباء والفقراء ظلت حاضرة في ذهنه. إذ كانت تجوب الشارع ذهابا وإياب طوال اليوم.

بينما طال توقف المدني الزائر مع ذكرياته، أخذ الحمار يحدث نفسه فقال: صاحبنا المدني لا يعرف ما الذي يميز الجحش عن البغل ، ورغم هذا سيغامر بالركوب على ظهري ، ظهري أنا ، الحمار المتمرد، الشارد من أصحابه، في قرية جبلية، بعيدة ، نائية، حيث لا أنس ولا جن.

لم يفكر الزائر المدني أكثر مما فكر خلال تلك الدقائق الطويلة، ودونما تردد قرر أن يركب على ظهر حمار غريب، تصادف وجوده على الطريق الجبلي. جمع قواه وحشد إيمانه قبل ان يضع رجله على سرج الحمار.. ثم قفز فوجد نفسه دون عناء فوق ظهر الحمار، الذي أبدى تفهمه لرغبة الضيف، بالرغم من عدم استئذانه بذلك.

استغرب المدني عدم اعتراض الحمار على الطريقة التي امتطي بها من قبله.. ولم يدر هل انه محظوظ أم أن هذا الحمار أحمر من بقية الحمير التي سمع وقرأ عنها.. فلحسن حظه في ذاك اليوم، ان الحمار الهارب من العتالة والأثقال والأشغال الشاقة، لم يبد مقاومة، ولم يرفض حمله على ظهره المتعب.

فرح الحمار البلدي بلقاء الحمار الآدمي..وسعد بلقاء هذا الرجل الخام، تماما كما سعد المدني بدوره بتفهم الحمار له وبرغبته وتعاونه معه..أمسك المدني بحبل شد إلى سرج وربط بإحكام حول عنق الحمار.. شده صائحا: حا ..

فتحرك الحمار إلى الأمام بعدما أجابه: آ

جواب الحمار أحدث مفاجأة لم يعرف معها المدني كيف يتصرف..

هذا الزائر الذي لا يفهم لغة الحمير الجبلية، إذ أنه طوال عمره عاش مع حمير آدمية مدنية، ناطقة، تتكلم لغة مفهومة وأخرى غير مفهومة استطاع أن يفك طلاسمها مع مرور الأيام...

حدث المدني نفسه متسائلا:

هل هذا حمار يتحدث العربية أم انه حمار لا يجيد سوى قول آ ؟

ثم فكر بينه وبين نفسه، لما لا أختبره بطريقة أخرى، فبدلا من حا ، سأقول له دي ..

فرح بما جاءت به عبقريته وبسرعة إيجاده الطريقة التي يمكن عبرها كشف سرّ هذا الحمار.

وأصبح الآن راغباً بمحادثة الحمار، بالرغم من تسرب الخوف والوساوس إلى رأسه وتفكيره..فقد تكون ركبته العفاريت أو سكنه الجان.

يجب عليه أولا أن يدعه يتمهل، فالحمار يسير سعيدا بما على ظهره من حمل بشري عابر وغير مقيم، حمل ليس ثقيلا ، وآمر لا يعرف قيادة الحمير ولا يفقه لغتهم. فليس كل حمار حيوان غير ناطق وليس كل إنسان حيوان ناطق.

قال الزائر للحمار السائر بعد شدّ الحبل من جديد: دي

رد الحمار فوراً: وي

تعجب صاحبنا، وقال : أنه يجيد أيضا الفرنسية !

يا لها من مفاجأة سارة ، حلمت طويلا بتعلم اللغة الفرنسية ، ولم يكن بمقدوري إيجاد من يعلمني ، فهل سأتعلمها من حمار؟ لا بأس فليكن ، إنها فرصتي للتعلم والاستفادة.. خاصة بعدما حضرته فورا بعض ذكرياته على رصيف الشارع المؤدي إلى مدرسة البنات ، وتذكر ترديده مثل الببغاء على مسامع الصبايا والطالبات بضع كلمات فرنسية مثل ، ، بونجور، بونسوار ، تيام مورا مور ، كاس كاسيه مدام، ميرسي وكذلك رانديفو.. كلمات تعلمها في زمن التسكع الشبابي بالقرب من مدارس البنات، وكذلك في مرحلة الدراسة الثانوية.

قال : هذا كان زمان..

معه حق.. فهو الآن أمام معضلة، أمام لغز يجب حله..

هل هذا الحمار فعلا يتحدث الفرنسية ؟

وهل هو فعلا حمار عربي ام انه حمار أممي يتقن العربية ؟

وهل يتحدث مثل كل العرب الفصحى والعامية؟

هكذا بدا صاحبنا، وأخذ يردد في قرارة نفسه أسئلة منوعة وكلمات غريبة..
ويقول : قد أكون في حلم، لم لا يحلم المرء وهو يمتطي ظهر حمار بعدما عزت الخيول في بلاده المترامية الأطراف؟

قرر المدني اختبار الحمار للمرة الثالثة على التوالي ليعرف ان كان في حلم أم علم.. فقال له : دي

وبسرعة البرق سمع جوابا يقول : سي

يا الله انه يجيد اللغة الطليانية كذلك

ما هذا الحمار العبقري ؟

انه أذكى من كثيرين من بني البشر .. يجيد لغات عديدة ، يرد على المفردة بمثلها وعلى وزنها ، حمار شاعر وبمشاعر، حمار من أهل الدار ، حمار لم يستسلم لهزائم محيطه وخراب عالمه، متحدث لبق، يبني كلامه وفق التقويم المحلي، كما انه يتحدث بأممية جليّة و صريحة، عكس أممية أصحاب معسكر أممي سابق، حمار قال انه يحب السير تحت المطر ولا يحمل مظلة حين تمطر الدنيا في بلاد الحلفاء... حمار منفتح، عقلاني، واقعي، يؤمن بحتمية التحرر من ديكتاتورية الفلاحين والمزارعين، حيث استعبد طوال حياته..

بعد سماع ذلك ظن المدني أن هذا الحمار شيوعي وصاحب أفكار يسارية و ميول ثورية.. واضح انه لا يحب الإقطاعيين، قد يكون قرأ المادية، النظرية العلمية،الدياليكتيك ، ومجتمع السعادة..أظن انه يؤمن بضرورة الكفاح لأجل الحرية وديمومة الحياة بكرامة، وأظن أيضاً أنه يعلم ان الحياة وقفة عِزْ ..

يا له من حمار ذكي، نسيت بعد كل هذا الخلط انه أجابني بالطليانية، فعندما قلت له دي أجابني سي ، وهذه كلمة إيطالية، من اللغة التي يجيدها الأخوان اللذان شيدا برج الحمارين في مدينة بولونيا وسط ايطاليا؟

ترى هل يعرف هذا الحمار لغات أخرى.. يجب ان اختبره، فأنا أجيد بعض الكلمات باللغات السلافية، سأجرب معه اللغة الروسية علّه يعرفها.

قلت له : حا

أجابني مرة واحدة : دا

يا له من عبقري ! حسنا ، سأجرب أن أوقفه بالعامية..

قلت له: هِشْ

قال لي: فِشْ

يا لهذا الحمار الموسوعة،ردوده جاهزة ولسانه فصيح

ماذا افعل معه الآن ؟

سأطلب منه ان يتوقف ونجلس معا للحديث في أمور الحياة والدنيا.

طلبت وكان لي ما أردت

لكنه بادرني بالسؤال

ما هي أخبار المدينة؟

قلت لا جديد في المدينة ، هي كما هي بدون تغيير نحو الأفضل ، الأخلاق فسدت والبيئة دمرت والبشر أصبحوا أكثر مادية.

ما هي أخبار الحمير في بلادكم ؟

يقال وأنا لا أجزم لأنني عديم الخبرة بالحمير، أنهم الآن أكثر وعيا وحنكة ،حيث تمرسوا في العمل والحياة ومنهم من تفوق على البشر..

إلى أين تتجه ؟

لست ادري ..

هل تريد العودة من حيث جئت ؟

نعم .. أرجو ان نعود الى حيث موضع اللقاء لأنني اشعر بالدوار..

لنعد يا صديقي الآدمي .

نعم لنعد يا صديقي الأممي..