زهرة المخيم

تغير كل شيء، حتى دجاجات العمة أم ادهم لم تخرج من خلف الأسلاك الشائكة لتبحث في أزقة الحارة عن بقايا طعام. ولا الكلاب بانت في الزواريب وعند حدود الجوع.. وحده الخبز الحافي يبحث عن فرن الحياة. لم تظهر سماء اليوم بتلوينات الأمس.. كأن من يشدها إلى الأعلى هو الذي يمنعها من السقوط على من هم تحتها.. كأنه أرادها اليوم بغير بهجتها المعتادة. وكأن القلق المصيري أصبح هم الناس بعدما تعرت السماء من الغيوم.وبعدما عز الطعام على الإنسان والحيوان.



قلق في المكان الذي لا يعيره احد أي اهتمام.. كآبة واضحة ترتسم على وجوه الناس في حارات البطون الفارغة والعقول الواعدة. الحديث بينهم لا يخلو من الخوف بالرغم من طرافته وأخذه لطابع الهزل حيث غلبت عليه النكات. . كانت نكاتا سوداء، فالترقب يسيطر على المقهى ويسود أوساط الناس قلق بالغ.. اجبر بعضهم على البقاء في البيوت والأسواق. فقد مرت عليهم أيام صعبة، ثم جاء الفراق والوداع. قبل أيام ودعوا أحبة لهم حملتهم السفن إلى بلاد غير بلادهم، والى مدن ومناطق تبعد عن المخيم آلاف الأميال. ثم تركوا خلفهم آلاف علامات السؤال لتتربع فوق تجاعيد الوجوه التي عانت وعاشت النكبات من الأولى في البلاد وحتى أخواتها كافة في بلاد الأشقاء.



جلس الفتى على حجر أمام دارٍ شبه واقفة، كانت بالأمس عامرة بمن دفن تحت أنقاضها.. تأمل الناس وهم يعبرون الطريق من والى المخيم. لم يأبه لاستعجالهم وهرولة بعضهم .. كانوا على ما يبدو قلقين من بدأ تساقط القذائف بشكل متقطع في جوار المخيم. لم ترهبه أصوات الانفجارات، مع أنه ليس من الذين لا يهابون الموت. قد تكون لامبالاة بسبب فقدان الأمل، لذا ظل يمسك بسيجارته وينفث فيها، ممعنا النظر في قطٍ ينتظر فريسته. أعجبته قدرة القط على الصبر، فقد انتظر لنصف ساعة خروج الفأر . انتظره نصف ساعة بالتمام ثم افترسه في ثواني معدودات ..



قال محمد علي متحدثاً بالطبع مع نفسه بصفة الجماعة : كلنا جياع ولم نأكل
طعاما جيدا وذو فائدة للجسم منذ بدأ الحصار. ولا غرابة في ان يكون القط أيضا بحاجة لفيتامينات لتحسين وضعه الصحي المزري. فقد جاع مثلنا لأكثر من شهرين ونصف من الزمن. هو يمكنه صيد الفئران أما نحن فلا نجرأ على الاقتراب من البحر لصيد السمك أو الذهاب إلى الحوش القريب لصيد الطيور. فالطيور المعدنية غيرت وبدلت لون السماء ، صارت هي الصياد ونحن الطرائد، هي القناص ونحن الفرائس.. تنتظرنا كي تفترسنا بدورها.



مرت فتاة أحلامه، زهرة تتمختر على الطريق المقابل.. اختلست نظرة، مالت برأسها في اتجاهه.. آه يا زهرة! كأنك الهوى يخفق بالهوى، تمرين بسرعة الريح.. انت أذن حية..

أنها حبه المباغت، عشقها وهام في حبها منذ التقى بها للمرة الأولى في تظاهرة تضامن مع أهل الأرض. شابة نحيفة، ممشوقة القد، بشرتها حنطية،طلعتها كالشمس أقرب إلى السماء، وبريقها كالقمر في أقصى الكرة الأرضية..شعرها خروبي ، وأسنانها بيضاء ، متساوية مثل أسنان المشط. حضرته صورتها وهي تنشد بأعلى صوتها " يا جماهير الأرض المحتلة".. كالمجنون حاول يومها الاقتراب منها، ليردد وراؤها نفس النشيد.

لم تبتعد كثيرا عنه، ابتسمت له، لمح البسمة فكاد يطير من الفرح، اقتنع بعد ذلك أنها تحبه.لما لا وهو الذي بح صوته وهو ينشد في التظاهرة خلفها، لأهل الأرض، ولها وهي تمشي قربه فوق الأرض.



مر أيضا قاسم الغول.. شاب طيب إنما أهوج بما فيه الكفاية.. يقال أيضاً انه مجنون،يعرفونه من صوته الجهوري ، الخشن، وجسمه الرياضي، وعينه المفقوءة،وطاقيته التي يلبسها بالعكس، عكس كل الناس،مقدمتها إلى الخلف ، بحيث يظنه المرء عائدا في تقدمه، أو مثلما قال احد هبلان المخيم " راجع لقدام وماشي" .. طلب الغول سيجارة وولاعة من محمد علي، ثم توجه كعادته إلى المدينة الرياضية حيث كان يقضي ساعاته تحت الشمس. يعد طيور السماء وطيور الأرض، هكذا كان يقول لنا. اليوم أحصيت 100 طائر في الجو وعشرة على الأرض. كنا ننظر على الأرض فلا نجد طيوراً حية ولا أخرى ميتة.كأن الطيور انقرضت.



عادت زهرة تتمايل وتنورتها الملونة تقاوم الريح، أما شعرها الطويل فقد بدا من بعيد كأنه بساط الريح. تقدم نحوها ببطء، لم ينتبه للسيجارة التي كانت في المنفضة، تركها تحترق، انشغل بزهرته وبقلبه المحترق. لم تعيده لحظة الطيران خلف قلبه لإطفاء السيجارة. لم يأبه لمخاطر اشتعال المكان بسبب تسرب بعض البنزين من خزان وقود كان متوقفاً بالقرب من سيجارته المشتعلة. هو نفسه كان اكثر اشتعالاً من السيجارة، لذا تابع وواصل مسيره. في الطريق القصير مسد شعره بكف يده. و مسح بإصبعه المبلل باللعاب حاجبه. إذ أنه يعاني من انتصاب بعض الشعيرات على حاجبه، فيبدو في تلك اللحظة مثل عجزة المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفيتي.



وصلت زهرة قبله، صارت عند المفرق المؤدي إلى أضيق زاروب في المخيم، لحق بها، أسرع الخطا، وصل قربها، وقلبه آخذ بالخفقان ، خفق بقوة، مما جعلها تضحك عندما سمعت نبضات وخفقان قلبه. ضحكة ملاك، وبسمة آلهة. تطلعت بعيني غزالة، ولم تنبس بكلمة.. سارع بسؤالها: هل تذهبين إلى البيت؟ هزت رأسها علامة الموافقة.. تعجب منها، هل هذه هي زهرة التي قادت التظاهرة أم أنها توأمها.. اقترب منها بشكل كبير، حتى انه أحس بتنورتها المتمايلة بفعل الريح وهي تلامس يده.



قال لها يا زهرة أتقبلين بي عريساً لك ؟

خبأت وجهها بكفها، لم تجبه على سؤاله..

أعاد تكرار السؤال وما أن فتحت زهرة فاهها حتى بدأت القنابل تتساقط على المكان.انتشر الغبار والدخان، فيما أحس محمد علي بألم في صدره. لم ير بعده زهرة ، لم يسمع صوتها. تساءل: ترى اين هي؟.. خاف عليها ، خاف ان تكون أصيبت .. لكن خوفه تبدد حين رآها تتقترب منه، تسنده وتضمه إلى صدرها. وتمسك بيده، وتمسد شعره المبلل بالدم. سمع دقات قلبها المتسارعة، قبل أن يقطع تلك السمفونية صوت قاسم الغول.. جاء يركض كالمجنون، انتزعه من أحضان زهرته، التي صبغت ملابسها بالدم. حمله بين يديه وركض به نحو المستشفى.. بينما وقفت زهرة مذهولة تذرف الدموع، وتنشد بصوت ملائكي جابو الشهيد جابوه يا فرحة أمه وأبوه..



لم يتمكن قاسم الغول من الوصول إلى المستشفى في الوقت المناسب، إذ أن صاحبه الجريح، الذي سأل عن زهرة.. لفظ آخر أنفاسه في المكان الذي ترك فيه سيجارته المشتعلة. توقف قاسم عن الركض ، وضع الشهيد بجانب الجدار حيث كان يجلس قبل دقائق، سحب نفساً عميقاً مما تبقى من سيجارة محمد علي.. ثم خلع قميصه الصيفي، وأخذ يصرخ بأعلى صوته، ويدق بكلتا يديه على صدره، كأنه طرزان يطلب النجدة من اصدقائه في الغابة. لكن قاسم لم يكن طرزانا ولا الحوش في المخيم كان غابته.. لذا لم تأت النجدة.. ولم يعد هناك بد من دفن الشهيد