استيقظت في حوالي السابعة صباحاً لأجلس في شرفة منزلنا الجديد وغايتي هي أن أبدد غيوم الإرهاق التي ماانفكت تلاحقني منذ فترة طويلة . فأغلقت عيناي لبرهة وأخذت نفساً عميقاً وأنا أمسك بإحدى الكتب القديمة, وما أن فتحتهما حتى استوقفتني روعة الحديقة الخضراء الواسعة التي يطل عليها المنزل , فبقيت أتابع امتداد الأشجار إلى أن وصلت إلى خط الأفق وأنا أحس بأني أضعت الكثير من الأيام في الماضي لأني لم أمتع نفسي بهكذا صفاء من قبل..
وبينما كنت أفتح الكتاب استرعى انتباهي سيدة وطفل صغير وامرأة مسنة تحمل بيدها عكازاً وجميعهم يقفون على الرصيف المقابل للحديقة وما هي إلا لحظات حتى بدؤوا سيرهم وأنا أراقب المرأة العجوز التي ما كانت تبدأ خمس خطوات حتى تتوقف قليلا لترتاح وتعاود بخمس خطوات جديدة ثم تتوقف , وأخذت تكرر ذلك إلى أن وصلت إلى منتصف الشارع.
وفجأة أخذت تلك السيدة تشد المرأة العجوز من يدها محاولة الإسراع بإبعادها عن السيارات التي كانت كأسود تعدو محاولة الانقضاض على الفرائس البريئة لكن العجوز لم تستطع حتى رفع رجلها. وبأعجوبة مرت السيارات دون أن يصاب أحد من الثلاثة بأي أذى , ورغم الخطوات المتثاقلة إلا أن الجميع وصلوا بسلام إلى رصيف الحديقة وتوقفوا بعد أن كاد قلبي أن يتوقف هو الآخر . لقد كان الرعب واضحاً عليهم والهلع قد استحوذهم , فوقفت السيدة والطفل جانباً , وجلست المرأة العجوز على طرف الرصيف وقد اقترب منهم رجل في متوسط العمر وبيده عصا أعطاها لتلك المرأة العجوز بعد أن تحدث إليهم لبرهة قصيرة ومن ثم أمسك بيد السيدة وسار الثلاثة مبتعدين بظلالهم عن العجوز والعصا القديمة وقد ضنّوا عليها بالذهاب معهم وكأنها عبءٌ ثقيل لا يستطيعون تحمله طيلة الوقت . لم تتوقف خطاهم كذلك نظرات العجوز عن ملاحقتهم حتى بدوا نقاطاً بعيدة في زمن أبعد . فحملت عصاها وبدأت بالخطوات الخمس ثم التوقف وإلى ذلك حتى دخلت الحديقة . وبقيت أتابعها وعيناي ممتلأتين بالدموع .
لاشك أن تلك العصا التي لا تحمل روحاً كانت أحنّ عليها من أولئك البشر . وهذه الحديقة أجمل منزل لمن لا منزل لهم غير جدران من حجر تسكن بينها قلوب لم تعرف الخفقان يوماً .
بقيت أتابع الخطى الخمس كل دقيقة حتى ابتعدت تماماً وبدت كأنها شجرة راحلة بين الأشجار وانتهت حين تلاقت مع الأفق وضاعت فيه ...